٢٠٠٨/١٢/١٦

من جريدة القدس العربي لكاتب ليبي..

عن
16/12/2008

كان الإسلام العربي الحضاري، الذي امتص الحضارات المجاورة والبعيدة، شمالا للأعراق والقوميات والثقافات، والديانات ايضا! وحتى قبل الإسلام كانت الثقافة العربية زاخرة بقيم التسامح واحترام الآخر. . . أما العبودية فقد كانت 'طبيعة' تاريخية في وقتها. كان العربي لا يسمح لنفسه بسؤال ضيفه إلا بعد مرور ثلاثة أيام من ضيافته، غير معني باصله وفصله أودينه أولونه. وتشكّل 'حلف الفضول' القريشي على مبدأ ألا يظلم غريب ولا غيره. وأن يؤخذ للمظلوم من الظالم. وكانت نار الكرم الطائي، تدعو، عن بعد، عابري السبيل ضيوفا يحلون أهلا وسهلا، دون تمييز. فالقادم مجهول لونه ولغته ودينه.
وقد لجأ إلى مكة والمدينة، قبل الإسلام، أعداد كبيرة من المضطهدين من المسيحيين واليهود فارين من اضطهاد الرومان أو الفرس. وعاشوا بسلام آمنين.
وفي عصر الفتوحات الإسلامية احترم الإسلام ثقافة الآخر: لغة ودينا وعادات. وكانت العهدة العمرية، بالتزامن مع عصرها، ميثاقا إنسانيا مُتفوقا، غير مسبوق تاريخيا، من حيث احترام الآخر ـ المختلف دينيا، وإعطاه الأمان وتوفير الأمن له، كما جاء في كتاب الخليفة عمر بن الخطاب لأهل القدس بعد فتحها، العام 638هـ:

'بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها.. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن. وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
كتب وحضر سنة خمس عشرة هجرية.
شهد على ذلك: خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان'.
كان العرب المسلمون في فتوحاتهم، أو غزواتهم إذا شئت، ملتزمين، إلى حد كبير، بالقيم الإنسانية للرسالة المحمدية، المثبتة في قوانين حرب صارمة، قبل معاهدة جنيف بأكثر من ألف عام. . كما في رسالة الخليفة أبي بكر إلى أجناده: 'لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدورا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة وسوف تمرون على قوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له... '.
وكان تشريع دفع الجزية، بالتزامن مع عصر استباحة المدن المجتاحة وإبادة أهلها، يمثل تقدما إنسانيا حقوقيا، سابقا لعصره بقرون. فتشريع 'الجزية' كان عبارة عن قدر من المال يدفعه من هو قادر على القتال من النصارى واليهود (أهل الذمة) في بلاد المسلمين. أي ضريبة لاعفائهم من التجنيد في جيوش المسلمين والمشاركة في الحرب. ويعفى منها الكهول والنساء والاطفال والعجزة والمعاقون، ومن يختار الانضمام إلى جيوش المسلمين.
إن الجزية كما يقول د. نبيل لوقا بباوي (وهو قبطي): 'فُرضت على غير المسلمين في الدولة الإسلامية بموجب عقود الأمان التي وقعت معهم، إنما هي ضريبة دفاع عنهم في مقابل حمايتهم والدفاع عنهم من أي اعتداء خارجي، لإعفائهم من الاشتراك في الجيش الإسلامي حتى لا يدخلوا حرباً يدافعون فيها عن دين لا يؤمنون به. ومع ذلك فإذا اختار غير المسلم أن ينضم إلى الجيش الإسلامي برضاه فإنه يعفى من دفع الجزية'.
وشهيرة هي المقولة المحمدية في نبذ التفرقة العنصرية؛حيث التقوى هي المعيار. إذ: ' يا أيها الناس ألا ان ربكم واحد ألا ان أباكم واحد لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر الا بالتقوى'.
والقصد من وراء هذه الشواهد أن الثقافة العربية والإسلامية، في إصولها الحضارية زاخرة بالقيم الدينية والثقافية والحقوقية، التي تتوافق، اليوم، مع روح مواثيق حقوق الإنسان. وإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري.
فما خلفية عنصرية العرب اليوم؟!
إن عنصرية العرب، اليوم، عنصرية الثقافة الركيكة. إنها تعبير عن انحطاطهم الحضاري. إن ما في حوزتنا من ما يفترض انهم عرب لا علاقة لهم بتراث العروبة القُحّة.... وهم مسلمون ولا علاقة لهم بحقيقة الإسلام السمح، بما هو إسلام الأخوية الإنسانية!
إننا في حوزة منسبين إلى العرب مثقوبين بفقدان الثقة في النفس: ذاتيا وجمعيا. لذا نجدهم يتوسلون، سواء بالترف النفطي أو بشعر المتنبي، عظمة فقاعية!
قد أفهم، من باب التحليل الموضوعي، حجج خطاب عنصرية الثقافة العرقية البيضاء من لدن الغرب. فهي تبقى نتيجة تفوق تاريخي موضوعي أعطى حق القوة والمعرفة والثروة للغربي 'الأبيض' بحسبانه 'الصانع الأعظم' للحداثة الفكرية ـ الصناعية ـ التكنولوجية؛المستمرة، حتى اللحظة، في الهيمنة الاقتصادية السياسية الثقافية، على الحضارة العالمية، والعولمة.
وبحسبان عرقه 'الأبيض' هو سيد الأعراق. وتاريخه هو تاريخ العالم. وديمقراطيته هي النظام السياسي الأمثل لكل العالم. وثقافته هي ثقافة الدنيا! لكن ما معنى أن يتصرف عرب اليوم، وهم في أدنى مستويات انحطاطهم التاريخي، بعنصرية رثة مقيتة، ضد شعوب، هي أرقى منهم حضاريا في الواقع العملي.. مثل الأفارقة والهنود والباكستانيين والبنغلاديشيين والفيلبيين والسريلانكيين... بينما يُسفِّل نفسه أمام الغربي الأبيض!
إن الموقف العنصري، لعرب اليوم، نظرة أو فكرة أو تلفظا، لا مبرر له، سواء بادعاء التفوق الحضاري الثقافي، الذي لا يملك منه شيئا... حيث مجموع ما ينتجه نحو ثلاثمئة مليون عربي، أقل مما تنتجه أسبانيا، التي كان يحتلها أسلافهم.
أو هي عنصرية بدعوة الاصطفاء الديني، بينما الإسلام، في جوهره الروحي، مناقض للعنصرية العرقية. وليس المعني من: 'أنكم خير أمة اُخرجت للناس' سوى تعبير عن أن المؤمنين بالإسلام هم خير إخوة ظهروا للناس!
أن التعبيرات والممارسات العنصرية هي تحصيل حاصل نفس بشرية (ما دون إنسانية) بغض النظر عن دوافعها أو دواعيها. إذ لا يمكن اعتبار الكائن البشري إنسانا وعنصريا في الوقت نفسه. إذ أن شرط كونك إنسانا مشروطا بكونك تأنس لغيرك بما هو عليه من حيث كونه إنسانا، في جوهره، دون أي إعتبار لتصوراتك الذهنية أو الفكرية عن باطنه أو ظاهره. . إذ تعد ذاتك من ذاته. . حتى قد تصل إلى الاشراق الرامبوي الخارق للعادة: أنا الآخر!

وهنا يقول قرآن المسلمين: 'لَقَدْ خَلَقْنَا الِإنْسَانَ فِي أَحْسنِ تقويمٍ.. '...أي مطلق إنسان؛ في أحسن تقويم روحاني عقلاني. فلم يخصص به الإنسان العربي المسلم. لذلك من المشين للعربي، المسلم تحديدا، المحمول على تراث ثقافي/ديني، ينبذ العنصرية، فكرا ونظرا، أن يؤدي الصلوات الخمس كما اتفق، ويمارس الخطاب العنصري في أحط تعبيراته: في الاحتقار الذكوري المرضي للمرأة.. السخرية من الاقزام وذوي السمنة، وذوي الحاجات الخاصة (اصحاب العاهات بالمنطق العنصري الشوارعي).. استصغار إنسانية الأجانب (ليس الأجانب البيض). إنما عمالة العالم الثالث من الآسيويين والأفارقة، الذين يعاملون كاشباه عبيد. . ويؤخذون كموضوع للسخرية من شخصيتهم. ومكانتهم الاجتماعية، وطريقة نطقهم للعربية، في المسلسلات والمسرحيات الهزلية وبرامج الكاميرا الخفية... وتصل إلى الاستخدام العبودي للأطفال الأسيويين في سباق جمال!
وهناك عنصرية العرب الخليجيين ضد العرب غير المنفوطين الذين بنظرهم يحسدونهم على نفطهم وثرائهم... بل ضد الخليجين بعضهم البعض باعتبار بعضهم أرقى من بعضهم!
وعلى وجه آخر هناك عنصرية عرب المشرق والمغرب ضد الخليجيين، بالنظر إليهم كـ'متخلفين' عثر الفرنجة تحت اقدامهم على النفط!
وهناك عنصرية 'القومية العربية' الشوفينية بأفكار منظريها وإنقلابيّيها الذين اختزلوا فكرة وجود 'امة عربية' باعتبارها أمة عرق واحد، ذات 'رسالة خالدة'، مما انتج قومجية عنصرية شوفينية، أفسدت، تماما، إمكانية معالجة فكرة 'العروبة'، بما هي ثقافة وليست عرقا خالصا.
وقد غفلت تلك الإيديولوجية أن بين نحو ثلاثمائة مليون قاطن في جغرافيا الثقافة العربية، من الربع الخالي إلى وادي الذهب، يتواجد عشرات الملايين من الناطقين باللغة العربية، والمؤمنين بالإسلام، دون أن يكونوا عربا. فهم أكراد وأمازيغ وطوارق وأفارقة... لكنهم لا يبغضون اللغة العربية، ولا الثقافة العربية، ويحبون النطق بها والتفاعل في ثقافتها.. لكنهم يرفضون أن تستعمر لسانهم الخاص وتصادر ثقافتهم الخاصة.
كاتب من ليبيا

qpt18