٢٠٠٩/١٢/١٦

فوربيري .. سوق الذكريات ..


السعادة ليست شيئاً تختبره، بل شيئا تتذكّره.

أوسكار ليفانت



عندما يتصل بي جاري ابو علي .. يدور الحديث,
عن الصحة, يليها العمل والسؤال عن العائلة,... بعدها الخطط القصيرة المدى .... ينتهي الحديث ب ماذا تفعل الآن ..؟؟
أجاوب غالبا, إن لم يكن دوماً,... ليس عندي أي شيء .. !!
.. هل نذهب سوية إلى مكان ما .. !! يتابع أبو علي .. أجاوب .. نعم .. وبكل سرور. عشر دقائق , أنقر الباب .. حسناً .. !!

غالباً, ألتقيه.. خارج البناء .. , إن انهيت لبسي, قبل مرور تلك الدقائق العشر ..
انتظره.
أبو علي يتمتع بايجابية جيدة .. يعرف ماذا يريد .. ويدعم تلك الايجابية, مسيرة حياته فيما مضى .. تنقلاته بين بلدان العالم .. تجاربه مع بشر متنوعين ومختلفين .. ولازالت الأمكنة التي مر بها .. مياهها جارية في داخله .. يتذكر بدقة كل الاحداث والبشر .. !!
أهلا ابو علي الحبيب !.. أصافحه وأربت على كتفه .. يجيبني مع ابتسامة حقيقية, هلا هلا رفعت .. شو الامور !! على مايرام ! أجيبه . نركب سيارته .. وننطلق ..

في السيارة .. بعض الصحف والكتب المستعارة او المشتراة .. الموسيقى !! لا أعلم .. الآن وأنا أكتب لماذا لا أذكر أي شيء عن الموسيقى .. لا نفتح المذياع ابدا في رحلاتنا .. كنا في السابق ..ربما .. مرة او مرتين سمعنا فيروز في سيارته التي باعها منذ السنة تقريبا .. لكن في سيارته الجديدة .. لم أعد أذكر أن الموسيقى كانت ترافق أي من رحلاتنا .. حتى أنني لا أذكر بأننا سمعنا .. محطة راديو . او أخبار !! ربما لأننا في طريقنا الى مكان ما .. نتكلم .. نستعير من الموسيقى وقتا لنتكلم .. وقتا لنشعر بانسانيتنا , فالتواصل بالكلام,هو دليل اكيد, على أن البشر اجتماعيين.. نتكلم عن الذكريات , تجاربنا مع الأمكنة والبشر .. يتطور الحديث ربما, الى المزايا الالكترونية التي قرأنا عنها مؤخرا .. أوعن الجي بي اس الجديد الذي ابتاعه أبو علي مؤخرا .... ننظر على المساحات الخضراء او البيضاء وحسب الوقت والفصل التي تظهر ونحن في السيارة ..
نلقي ملاحظة أو دهشة .. تعبر نافذة السيارة الزجاجية, هنا وهناك, عن ذلك المنظر الخلاب من الاشجار الملونه في الخريف أو الخضراء في الربيع ..
صوت أبو علي يتكلم .. أنا أستمع .. !! الطريق غالبا نفسه .. طريق سودرتالية القديم .. الذي يعبر المناطق الريفية الجميلة .. !! إننا نتجه إلى سوق فوربيري , السوق الذي يبيع المستعمل .. والذكريات ...

Vårberg

تقع "مدينة" فوربيري على بعد النصف ساعة من مدينة استوكهولم العاصمة, وهي تجمع سكاني, في احدى بلدياتها ال:26 والتي يسكنها غالبية أجنبية الأصل بنسبة أكثر من النصف منهم اكثر من 40 بالمئة مولودين خارج السويد .. لذا أخذت هذه " المدينة " طابع غريب .. خليط عجيب من بشر أتو من مختلف الأصقاع .. أفارقة ولاتينين واسيويين واوربيين شرقيين ..

Vårberg slopmarknad

وصلنا ذلك الدوار الذي يتفرع الى جهات عدة .. منها فوربيري ..
يقود ابو علي, السيارة الى الساحة المعدة لركن السيارات, .. يدفع حسب الوقت الذي يرغبه ..فيأخذ البطاقة ويضعها على التابلوه .. !!
هكذا.... تمشينا قليلا لندخل بناء قديما. بعض ورشات التجديد انتشرت في بعض الامكنة ..
انه سوق مسقوف كبير .. يمكن لراكب قطار الانفاق الوصول اليه مباشرة عبر المداخل الكثيرة التي تتفرع في مختلف الجهات, ..
في منتصف تلك الساحة الداخلية من المركز "السنتر" هناك درج يصلك إلى سوق يسمى باللغة السويدية " لوب ماركناد" بما يعنيه حرفيا أنه سوق البرغوث .. وهو كناية عن تلك الاشياء التي تباع مستعملة هنا !!
سعر تذكرة الدخول في ايام العطل "سبت وأحد" يبلغ ال 20 كرونا سويديا للشخص أما في الأيام المتبقية من الاسبوع فهي مجانية .. !!
مسكت الدرابزون بجانب الدرج ونزلت خلف ابو علي..
أول احساس يستقبلك في هذا المكان هو, انصهارك مع بقية الجموع التي تتحرك بين الطاولات .. شعائر غريبة كانهم حجيج .. اشبه ذلك بالطواف... حول تلك الموائد العامرة بالبضائع الغريبة والقديمة وربما المسروقة .. ثياب, منحوتات, آلات صناعية, هواتف, الكترونيات باشكالها المتعددة .. وبعض المحلات المتعددة .. تستطيع قص شعرك, هناك المساج التايلاندي ..ومصلح الساعات والهواتف .. ترى, شرائط الفيديو والديفيدي والسيديات .. آلات الموسيقى , الكتب .. المفروشات .. الألعاب .. هنا تستطيع أن تلتقي ببشر برجال ونساء .. جميلات في بعض الاحيان.. بشر لازالت تحيا .. دمى, ..كأنها قطع ثمينة لازالت تنبض بالحياة ... كم هائل من بشر غريبين, هاجروا من كل انحاء العالم ,,ولن استغرب أن يوما ما, سألتقي بمحارب من الأمازون نفسها.. برمحه وبثيابه المختصرة .... !!
كنت في البداية أمشي بجانب ابوعلي , لكن مع الوقت وتكرار الزيارات وتكرار دعوته لي بأن لا ألتزم به , جعل التطواف بين هذه الموائد عشوائيا .. فأنا لا أملك الحس الجغرافي او المحلي .. او مايسمى ب احساس الموقع .. فأسير بشكل مضحك .. قف هنا ثم اقف بنفس الكان بعد قليل لشيء شد انتباهي .. أيضا لن انسى ضعف ذاكرتي, فانا أعتقد أنني رأيته في مكان أخر..!! وهكذا .. يسير المرء متنقلاً بين الموائد والبشر .. روائح الماضي .. صوت موسيقى لاتينية .. أوشحة مرسوم عليها وجه غيفارا الخالد بقبعته ذات النجمة الخماسية وشعره الطويل .. أزرار , تلك التي تعلق على الثياب .. مجلات ال ستينات والسبعينات .. اسطوانات الفحم والبلاستيك الاجدد .. فرانك سناترا , شارلي باسي, ارت كارفنكل وبول سايمون .. أتذكر الفونوغراف الرائع, الذي ابتاعه والدي .. سيارات الماتش بوكس .. التي كانت هاجسي وأنا طفل .. احلم بانني تقلصت فادخل بها ... الالعاب المصنوعة من التنك .. البوسترات .....كل تلك الاشياء ربما مات من لبسها من استمع على تلك الاغاني .. .. بشر رحلوا ولم يبقى منهم سوى أغراضهم .. حتى عصي العجزة .. الكثير منها في سلة واحدة .. كلها للبيع .. لكني هناك لا اشتري الكثير .. بل ما آخذه من هناك شيء آخر .. انه الحس الاحتفالي الذي يلبسني أجنحته لأنتقل بالزمن والمكان ,... فأعيش في تلك اللحظات بزمن قديم .. كأن أتخيل نفسي, في سوق للعبيد في المغرب كلوحات المستشرقين , أو أنني أسير في سوق كبير في الاندلس .. في منتصف افريقيا , عندما شاهدت امرأتين تلبسان الزي التقليدي الملون والمزركش .. يا الهي .. أحلق .. في سماء مرسومة بوجوه البشر .. روائح عطورهم .. عرقهم .. روائح ثيابهم .. التق بأبوعلي عند طاولة , نقطة ما , يقول لي .. نمشي .. طبعا أبو علي .. نمشي .... فانتزع نفسي من السماء .. وامشي بجانبه , صاعدا الدرج في طريقنا الى السيارة .