مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرحبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا 2
من جديد أجلس في غرفتي المليئة بالفوضى. آلاف الأوراق والكراكيب التي جلبتها معي مؤخراً من اللاذقية عسى أن تنفع في حياتي الآتية و المتأخرة هنا .. أفتح الكومبيوتر و أنتظر إقلاعه لأكتب و إذ بي أفتح مجلدات الصور و أتفرس بوجوه أصدقائي و أهلي .. الزمن لا يقف , لا يتعب .. أنظر مليا و بتركيز شديد على أكثر الأشخاص الذين لا أراهم في الواقعً !! وجهي أنــــــــا ! يـــــــــــــــا الله !! كم يبدو علي .... ماذا !!!! العمر , الشيب أم تراجع خطوط الشعر إلى القواعد المتأخرة من الجبهة .. و كأنني في حرب مع الزمن أو مع العمر.. و شعري هو العلامة المميزة على انهزامي أمامه .... لا لا لا فالأوجاع التي ترافقني منذ مدة , ابتداءً من ظهري حتى انتهاءً من الأعلى و الأسفل من جسدي , أي أصابع قدمي و رأسي - مع حفظ الألقاب و الترتيب- هم من لهم اليد الطولى في دفعي باتجاه المـــــــوت .
إيـــــــــــــــــــــــــــــــــه دنيا .. عبارة كان يرددها أبي كلما عنًّ له بال عن شيء ما , ولكن أي شيء ما غير الماضي و أيام الشباب. أن نفقد أشخاص كانوا في حياتنا رمزاً للديمومة و الدعم المعنوي بأنه لا زال لدينا بارقة أمل بأن نحيا مثلهم و لدينا شيئاً مثلنا .. للأسف لم أحسن التصرف بحياتي فأنا و أنتم على ما أظن أسرفنا في استخدام مبكر للحياة دون أن نعي أننا لن نستمتع لاحقاً كما لو أننا هدرنا كل الفيش في لعبة واحدة و لم نحسن اللعب جيداً .. لم نحسن اللعب جيداً .... أنا أعلم اً بأنني حاولت و بجهد ليس كبير بأن أجيد أشياء كثيرة و استطع عمل كل شيء لكن لا أستطع عمل شيء منهم بشكل متميز و كامل . كنت أتسائل دائماً عن أولائك الذين يستميتون ليبرهنوا مدى تحملهم مثل أشياء كاللعب أو الركض أو السباحة ربما على مدى ثلاث ساعات .أما أنا فكان يكفيني العوم و المشي فلست بحاجة لأكثر ..
45 سنه من العوم تخللها الكثير من الغرق و شرب الماء المالح . لم أسبح و لم أقفز كنت أعوم فقط و اتجاهاتي دائماً نحو المياه الدافئة .. كنت أحيا على علاقاتي و عواطفي التي وجهتها إلى أصدقائي و أهلي . كنت أستمتع و أتباهى بأني الأكثر معرفةً ببشر و أصدقائي كثر .. لم أتردد بأي من لحظات حياتي أن أتعرف إلى البشر .. البشر البشر .. منذ ليس أكثر من 14 سنة بدأت أشعر بأن تلك العلاقات بدأت بالتفكك . الفكرة التي بنيت عليها حياتي كانت آيلة إلى الانحلال , التبعثر و الشتات , بدؤوا أصدقائي بالسفر. كنت كلما أودع أحداً تنتابني مشاعر الانهزام و الخسارة .بدأت الآن تلك القوافل بالغرق في رمال الزمن .. خاصةً بأني نفسي قد هاجرت و ليس بشكل قسري عن ما تبقى منهم.
بعد ساعتين..
شعرت بالتعب و الإرهاق علماً لم أفعل شيئا اليوم. كان يوما كغيره من الأيام , يملؤه الضجر, الحنين و التفكير بالأصدقاء .. يسألني أحدهم , أليس الأولاد من يأخذ كل عالمك !!! لا ..!! أجيبه ... و يستغرب !! ينظر إلي بقرف و يعلوا على طرفي فمه ابتسامة ساخرة و يدير وجهه بعيداَ عن اتجاهي ! أليس الأولاد من يملئ دنيا البشر بالحب و الخير و السعادة .... أقول نعـــــــــــــــــــــــــــم ولكن مهلاً لا أستطيع التخلي عن حياة الماضي وتاريخي! الأصدقاء و البشر الذين شاركوني سنيني ال42 الماضية , سهيل, مصطفى,جورج, محمد, علي,و و و و و و و و و و و و و و الخ انهم ليسوا هنا و عندما أتلفن لأحدهم أحسب كم من الكرونات السويدية قد اختفت من حسابي, علي أن لا أبذر بالمادة الخام , علي أن أحسب و بدقة كيف يمكنني أن أحيا في بلد كالسجن لا تستطيع إلا أن تحيا مع ماضيك به لا لشئ سوى أنه لا يوجد ما تبقى لتفعل شيئاً و أعني العمر و الجهد.
السويد التي جئت إليها لم تكن كما كنت أتخيلها , أرض السعادة و اليوتوبيا و هذا ما شرحته في رسائلي السابقة و ما أتى لاحقاً كان اعظم, الفوضى, و سوء استخدام العدالة و النظام و تفشي العنصرية و مجيء عمالة رخيصة من دول أوروبة الشرقية التي دخلت المجموعة الأوروبية حديثاً جعل السويد دولة ليست لها خصائص كالسابق بعدما سيطرت أمريكا على العالم ثقافيا و أمنيا و اقتصاديا.
لا أحد يستطيع التملص من الماضي . هذا ما أقوله دائماً. فمثلاً الآن استمع للمغني الإيطالي لويجي تانغو الذي كان من المغنيين المفضلين عندي لأكثر من ثلاثين سنة و أكثر , أذكر إني كتبت إحدى أغانيه بالحروف العربي و رحت أرددها حتى حفظت منها القليل ولا زلت أردد مقاطع منها للآن اسمها فيدراي فيدراي و ربما هي الأغنية الوحيدة التي أحفظ منها كل تلك الكلمات و التي لا تجاريها أي أغنية و حتى النشيد الوطني الذي خجلاً أبتبت و أحرك شفاهي كلما كنت مضطراً لأشارك به !!
أيقظتني زوجتي بانها ستذهب إلى المتجر الذي يبيع فضلات الجيش السويدي لشراء هديه لأبيها الذي سيبلغ من العمر 65 سنة و الذي يصادف يوم ميلاده ميلاد ابني شكيب "ويليام" . ذهبنا إلى هناك حيث قادت السيارة بتأن على أعصابي ككل النساء ثم نزلنا جميعاً إلى هناك مع حماتي و اشترينا الأغراض لقضاء يوم نصف الشتاء كما يسمونه السويديون عند والدها و الذي أيضاً يصادف يوم ميلاد شكيب ووالدها. أبت حماتي التي اشترت بخمسة عشر كروناً أشياءً خاصةً بها أن أدفع عنها الحساب. أشعر بأني للآن غير مرحب بي !! أعني أن تشعر بأنك لست أنت كما المعتاد خلال 42 سنة قضيتها هناك في بلدك و عاداتك!! رجعنا إلى البيت و ببرودة فائقة أوقفت السيارة بعيدة عن البيت 30 متر على الأقل مع أغراض وولدان يجب حملهما " كدت أشتعل من الغضب بقيت في السيارة بعد أن أوقفتها بشكل نظامي و تكلمت مع سهيلي الحبيب .. الكلمات ربما لا تعني شيئاً .. تخبط في المشاعر تشعرك بأنك لا تجيد اللغة و الكلام .. مشتاقون كثيراً , كيف الأولاد و العمل !! باي باي .. خمس أو ستة دقائق ترجع البيت و أصوات الأولاد تعلوا أكثر من ناطحات السحاب في زائير .. سايقاً
أرجع أشعل الكومبيوتر و أبدأ من جديد .. مشتاق لكم حقاً ..
من أجمل الأشياء لدي أن أملك التكنولوجيا و أفهمها .. من خلال اقامتي في السويد أحببت امتلاك الموبايلات, لمً كان اللاسلكي يملئ الفانطازيا بداخلي. في الآخر عندما كنت في اللاذقية كلفتني دورة في صيانة الموبايل عدا المال, الوقت الذي كان يجب علي قضائه مع عائلتي. لذا كان علي أن أشتري عدة موبايلات تراوحت أثمانها في بعض الحالات ثمن سيارة قديمة موديل 1992 كالموبايل الذي سرق مني منذ أسبوعين مع ما فيه من أسرار تقوم القيامة بها في اللاذقية . اشتريت منذ أيام موبايل سوني ايريكسون ب800 و هو من المويايلات التي أحببتها لجمعها الكثير من الميزات التي لا توجد في الموديلات الجديدة. لدي جهازين من نفس الموديل إلا أن الشاشات لا تعمل , فعندما رأيت الإعلان في الموقع تلفنت للمعلن و اتفقت أن أذهب له علماً كان في البيت احتفالاً صغيراً بمناسبة ميلاد ابني شكيب الذي احتفلنا به مسبقاً لأن يوم ميلاده كما قلت يأتي بيوم يحتفل به السويديين و هو منتصف الصيف. المدينة التي يسكن بها صاحب الموبايل على بعد ساعة و نصف في القطار عن مدينتي دون حساب أنني لا أعلم أين يسكن فالعنوان كان بالنسبة لدي غير مفهوم مع ذلك خاطرت بالذهاب و الإتيان به و رجعت المنزل الساعة الحادية عشر ليلاً حاملاً الموبايل الذي سأحمله بدلاً من الqtek s200 المسروق الآنف الذكر و السيء السيط و الابن الحرام .
.. زوجتي ستذهب للنوم قالت لي أنك كالجار لا نراك و ليس لديك الوقت لنا .. تحسب بأني سأنزعج من ذلك الوصف .. أضحك لذكرى أحتفظ بها مادمت حياً عندما كنت مع المرحوم محمد بلة في بيتهم و جاء خالد يحمل منشفة ليدخل الحمام فقال لي محمد ماداً يده ليشير لي ويقول بعرفك خالد المستأجر الجديد في الغرفة الجوانية !! ضحكت جداً وبقت تلك الذكرى و الحادثة مزحة لا زلت أستخدمها بين الحين و الآخر.
اشتريت أقلام للكتابة على السي ديات فضاعت الأغلفة ..!!
بدلت الموسيقى الآن أستمع لأديب الدايخ .. لماذا يكنى الانسان بالدايخ .. أو الجربوع , الضبع !!
استغرب الانتماء!! لماذا لم يبدلوا الكنية, هل خوفاَ من ضياع الأقارب !! ربما !!
الساعة قاربت الواحدة .. عفواً العاشرة يجب علي أن أذهب لأبقى محملقاً في السقف وأتمنى أن أحلم بفتيات جميلات ربما سأراهم في حلم الليلة ..!!
أديب الدايخ يغني : ياحلوةً بين الجفون تنام ... ثم لم أفهم أي كلمة بعدها سوى خيالك الأحلام ! هكذا الطرب العربي لا تفهم بل تنتشي هنا عادها للمرة الثانية ففهمت "سعدت بطيف خيالك الأحلام" جميل !! الكلام و الله بكسر مزهرية الهاء !!
نتابع غداً انشاء الله ..
ني بوك فان أول البارحة
كانت الرحلة إلى "ني بوك فان" - حيث يسكن والد زوجتي- سلسة و ظريفة , لولا بدايتها حيث كان يجب علي أن أملئها بالبنزين و لأول مرة في السويد .. علماَ , و لا تتعجبوا, أنني البارحة نزلت إلى المحطة القريبة من بيتي لأتعلم كيف يستعملوا تلك الآلات المريبة و الغريبة في تعبئة سياراتهم!! عرفت كيف يمكنني أن ألقم النقود و بأي جهة يجب علي أن أدخل الورقة النقدية حيث تمعنت كثيراً في الصور المشروحة تحت تلك الفتحة ولكنني لم أر كيف و أي خرطوم يمكنك أن تستعمل. لن أطول الحديث عن مخاوفي في تلك اللحظة من أمن أو شرطة باعتبار رجل دون سيارة في محطة وقود اوتوماتيكية "أي دون عمال" أمر غريب !
رجعت البيت و أنا متوجس من تلك اللحظة .. صباحاً و مع إصراري بأن نصطحب حماتي قبل أن نملئ السيارة بالوقود, جاء الأمر بشكله الإعتيادي لا !! يمكنك أن تعبئ البنزين من المحطة القريبة من هنا .. " هذا شيء منطقي على ما أظن"
رأيت سيارتين تعبئ الوقود فصففت وراء إحداها و لعلمكم الإنسان السويدي لا تفرق معه السرعة و الوقت عندما يتعلق الأمر بتلك الأماكن " هناك آلتان واحدة في الجهة اليمينية و الأخرى بالطبع في اليسار بعد عشر دقائق جاءت سيارة أخرى و صفت في الجهة المقابلة للآلة التي أنتظر أن أعبئ منها .. الغباء كما آنفاً ذكرت!!
لم أنتبه أن كل آلة لها جهتان و بذلك علمت أنني انتظرت وراء السيارة الوحيدة التي تعبئ الوقود بينما ثلاث آلات تعبئة كانت متوفرة بعد لحظات من وقوفي خلف السيارة التي كانت بالكاد تقف لتملئ الوقود ..
ايس هذا كل شيء . ذهبت السيارة بعد عشر دقائق حسبتهم شهرا, صففت السيارة بالقرب من الخرطوم و ذهبت حيث لقمت الآلة ب 200 كرون سويدي و هنا جاءت المشكلة باعتبار السيارة قد ابتعتها مؤخراً لا أعرف كيف تفتح فتحة الوقود. جربت المفتاح بعد ان حاولت جاهداً و بارتباك فظيع أن أدير الغطاء نحو اليمين و اليسار الذي أبى أن يفتح بعد أن دفعت المال, أصابني ما يشبه الهلع لدرجة كان بودي أن أذهب من المكان فورأً دون تحمل المزيد. بعد أن قرأت ما كتب على الغطاء: أدر بالمفتاح ربع دورة نحو اتجاه الساعة للفتح و العكس للقفل.
الإشكال هو: أن فتحة قفل الغطاء لا تناسب كبر المفتاح لدرجة ظننت أن المالك القديم للسيارة نسي إعطائي المفتاح المطلوب. جربت بالربع الأول من المفتاح فدار القفل مما أعطاني أملاً بأن أنهي تلك المشكلة .. هل أطلت .. المهم تزودت بالوقود الصحيح فكان خوفي بأني ربما أخطأت بالخرطوم فسيكون مازوت أو بنزين آخر غير المطلوب . مررت ببيت حماتي و بدأت الرحلــــــــــــــة.
ليلة منتصف الصيف مهمة جداً في التقليد السويدي وأظن الاسكندنافي عامةً, لمَ له من أهمية تاريخية تتعلق بالضوء أي دورة الشمس و بموضعها في الكون حيث ضوء الليل تماما كضوء النهار في الساعة الرابعة عندنا في اللاذقية. لهذا اليوم تقاليده الخاصة . الطعام و الاحتفالات و الرقص و التجمعات في الساحات حيث يرقصون حول صليب كبير مصنوع من الخشب و ملبس بالأغصان الخضر و على طرفي الصليب يتدلى دائرتان بهما مختلف الزهور و الورود. الطعام اسمه سيل و هو نوع من السمك يضعونه بالخل مع البصل و الجزر و القليل من نوع من الأعشاب و يأكلونه نيئاً مع البطاطا المسلوقة و البيرة و المشروب التقليدي السويدي الذي يشرب كجرعات صغيرة مثل الفودكا أو التكيلا .. أنشد والد زوجتي كل ما يعرف من الأغاني التقليدية السويدية ربما بفعل المشروب أو هم بالحقيقة هكذا.
جاء المساء حيث كما قلت مضاءً كالنهار و الشيء الوحيد الذي يتيح معرفة أن الليل أتى هو عقارب الساعة و تعب جسدك الذي أنهكته ساعات النهار.. كان اقتراح زوجتي بأن ننام في الخيمة التي نصبتها مع حماتي في الحديقة تحت شجرة التفاح المشوهة قد أعد مسبقاً و جرى النقاش حوله قبل بداية الرحلة لذا لم يكن لدي أي عذر بعدم قبوله. كان الأولاد نائمين عندما أتيت لأدخل خيمة لا تسع لي وحدي فما بالك بطفلين و بالغين زدهم رائحة العشب الرطب و ميلان الأرض. لم أنم و لم أحاول . عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقيأ ابني الصغير و بذلك قضينا بقية الليل في الفيلا بعد أن نقلنا الأولاد من الخيمة والسهر على صحة فيكتور. في العاشرة قطعنا الرحلة عائدين إلى البيت. محملين بذكرى ليلة منتصف الصيف العظيمة مصاحبةً بتقيؤ فكتور ليومين متتاليين حيث أصيب على ما أعتقد ما يشبه التهاب أمعاء .. الآن فيكتور بصحة جيدة و الحمد لله. انتهت الرحلة.
ألقاكم في مرحبــــا قادمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق