٢٠٠٧/٠٦/٠٢

اللاذقية ومن ثم طرطوس











هذه الصفحــــــات و التي كتبت فيها بتواريخ مختلفة غير مرتبة زمنياً مرتبطة بوصولي إلى مدخل أو بهو كبير إلى ما كنت أسميه حلمي وهو الحياة في بلد أوروبي ... وللآن لا زلت أتمشى بذلك البهو الكبير تارةً إلى الأمام و تارةً إلى اليمين , حيث لا أملك من أدوات لتعيين الاتجاهات وكأني تماماً في الصحراء , هاهي الثماني أشهر مضت , ما فعلت بها و ما صنعت إلا زيادة أكثر من عشر كيلو غرامات و معرفتي ببعض المفردات من لغة البلد وبعض الهواتف للأصدقاء الذين لم يتح لي أن أتواصل معهم كما الآن ..



اللاذقية تلك المدينة التي مللنا منها يوماً واشتكينا و أقسمنا على أن لا نعود إذا تمكنا من الخروج منها أصبحت الآن بالنسبة لي على الأقل مقدسة لأنها متبلة بذكرياتي و مغطسة بنبيذ أحزاني و أفراحي , ماذا يبقى من الحياة بعد الأربعين , بعد أربعين سنة من الانتظار ... !! أعتقد بعضاً من السنين الأخرى من الانتظار أيضاً .



لعبد المنعم و وسيم وغسان و مالك و شربل و اسبيرو ومحمد و علي و ماهر ومنذر ومصطفى و أحمد و خالد



للذين ما زالوا ينتظرون و للذين ما زالوا على الباب , هذه الكلمات جرساً قوياً .. و نقراً عنيفاً .. آملاً لهذا الباب أن يفتح ......................................!



عيد الميلاد.. حقاً ولدنا .. حقاً سنموت ..!



في 18 شباط وفي تمام الساعة السابعة والنصف , كان الجو صحواً وكانت الشمس مشرقة , وكانت علائم الولادة قد بدأت مع أمي قبل ساعات ليست كثيرة , قالت بأنها لم تتعذب كثيراً وكانت ولادتي سهلة وقد كانت أختي منى من قالت لي عن ما حصل ذلك اليوم فقالت بأنني ولدت بشعر كثيف وطويل وكنت مغطى بالشحم ولا أعرف تماما ما تعني به هذه الكلمة فما زلت للآن مغطى بالشحم !!



ما جعلني أكتب الآن هو سماعي أغاني فيروز القديمة التي كنت قد اعتدت سماعها عندما كنت أرافق أبي في السفر إلى طرطوس , البلدة التي تعيش بها عمتاي مستهام و فائقة رحمهما الله , وأنا أركب سيارة مرسيدس 180 قديمة كانت السيارة الملائمة للسفر إلى بلدة تبعد 100 كم عن اللاذقية وذلك قبل أن تستورد حكومة البعث سيارات دودج صفراء صنع أسبانية التي ذهب ضحيتها عشرات المسافرين والسائقين الذين لم يتعودوا أو أن السيارة لم تتعود عليهم وطرقهم ووضعوا الملامة على الأسبان لأنهم كما كانوا يقولون أنها غير أصلية !!



كنت أفتح نافذة السيارة وأستمتع بالهواء الذي كان يصتدم بوجهي وأمد راحة يدي متخيلاً جناح طائرة وهو يقاوم تلك القوة العنيفة من الهواء .. كانت ساعة أو ربما تزيد ربعاً لنصل إلى المشبكة حيث كان تجمع سيارات التاكسي المتجهة من وإلى طرطوس وكنت أسمع المنادون يصيحون على مختلف الجهات وبالتحديد طرابلس أو بيروت في لبنان حيث كنت دوماً أكن لمسقط أبي كل الشوق .. نأخذ تكسي أخرى ونتجه إلى بيت جدي الذي أحمل اسمه, كان بيتاً رائعاً مليئاً بالسكينة و البرود العجيب وكانت غرفتان في البيت محرمتان على الجميع أن يدخلها ولا أعرف لماذا !! لكنهما كانتا معروفتان بالنسبة لي , غرفة الضيوف حيث ركن عود جدي في إحدى الزوايا وتلك المقاعد التي لم تستعمل منذ سنين كثيرة .. لم يجلس عليها ضيف أو حتى من أهل البيت .. كانت جثث مغطاة بكفن لونه طحيني وفي الواجهة إطار كبير وبداخله صورة لجدي وجدتي محاطاً بفسيفساء من الطوابع وتلك الستائر المشغولة باليد التي كانت أمي تحبها جداً لما كان من صنعها صعوبة بالغة وبحاجة لصبر كبير ومهارة كانت عمتي فائقة هي من تملكها , أما الغرفة الثانية فكانت غرفة نوم عمتاي وتلك الغرفة التي شرفني النوم بها يوماً عندما سكب الماء المغلي على رجلي اليمين , واضطرت عمتي مستهام وهي التي كانت تحتل منصب ضابط الأمن في ذلك البيت , القبول بهذا , كانت النافذة تواجه الشارع الفرعي من البيت وكانت تطل على المساكن القريبة من البيت وربما كانت عمتاي اللتان عاشتا حياتهما دون الارتباط بزواج أو حتى بعلاقات مع الرجال قد جعلتهما مع تلك الغرفة حلقة من الأسرار وما يوجد داخل الغرفة من أشياء كانت دائماً شاغل تفكيري في صغري ..



كان لديهما سريران من النحاس الجميل ويعلوهما ما يسمى بالناموسية وقد جعلت السريران ملوكيان وكانت رائحة البخور دائمة الحضور لتزيد روعة الغموض في مخيلة طفل صغير ماسكاً يد أبيه وهو يدخل من الجهة الخلفية من البيت فتطير الحمامات ويصدر صوت خبط أجنحتها كترحيب غير خاص بأي زائر من ذلك الباب تحينا عمتي مستهام بتحية لم أشعرها بحياتي حارة وكأن أخيها لم يغب عنها يوماً وربما مع الأيام كانت الزيارة الأسبوعية قد أصبحت من العاديات , ندلف إلى غرفة الجلوس يرافقنا كلب أو كلبان حسب الزمن الذي نأتي به فرحين قافزين على أرجلنا ونحن نمشي بذلك الممر الضيق على جانبه اليساري تصطف نباتات الأضالية والحديقة التي تتوسطها تلك البركة المسدسة الأضلاع والنافورة التي لم أراها تعمل سوى مرتين في حياتي ومن ثم هناك كانت أربع شجرات الأكي دنيا , النخلة , الليمونة والكرزة التي لا يتجاوز عدد ثمراتها في السنة الست أو ثمانية حبات كرز فقط ولا أعرف لماذا لكنها كانت ثمرات كبيرة ولذيذة وغريبة والآن أشك بأنها ربما كانت ليست كرز على الإطلاق و ما تبقى من ثمرات الأشجار الباقية فقد أشبعت نهمي في كل سنة منها .. ندخل غرفة الجلوس التي لا زالت علائم مكان رأس جدي على الحائط فترحب بنا بقدر أكبر عمتي فائقة وهي الأصغر سناً مستقبلة إيانا فقبل باردة تلك القبل التي لم أطبعها أبداً على وجه عمتي مستهام إلا عندما بلغت عمر العشرين ربما وبعد موت عمتي فائقة بسنين عديدة .



كان يوجد تلفزيون لكنه لم يعمل أبداً, كان هناك فقط ذلك الراديو الصغير و إذاعة لبنان التي تحتل المغنية صباح أكثر أوقاتها وكان هناك ليلى تلك الفتاة الشقراء التي تعمل و تحيا بينهم وتعشق صباح وعبد الحليم حافظ والتي حاولت الانتحار عندما مات عبد الحليم لكنها نجت بغسيل معدة في المشفى. وتلك الطاولة الكبيرة وتلك الخزانة الكبيرة التي تحوي الصحون و الكاسات التي تستعمل فقط في المناسبات منها العيد الصغير والكبير الذي نأتي به باكراً جميعاً ربما ماعدا أمي التي لم يكونوا على علاقة جيدة بينهم في بداية زواج أبي وأمي ولا أعرف لما !!





كانت تلك الرحلات الأسبوعية إلى طرطوس والتي لم أمل منها أبداً ذكرى جميلة تبدأ بأغنية لفيروز أو عبد الحليم أو أم كلثوم , و أنا على بعد قارة كاملة أسمع تلك الأغاني على حاسبي المحمول في مطبخ مطل على شارع نسبة المرور به شخصان في الساعة وعدة سيارات وباصان لا يحمل أي منهم أو يسمع كلمة عربية واحدة فأحمل روحي وأطير , أرجع صغيراً ماسكاً يد أبي البيضاء الجميلة الدافئة , تحيَنا عمتي وتتجه عيناي على تلك البقعة التي خلفها رأس جدي عندما كان يجلس , متخيلاً إياه يسمع المذياع أخبار انفصال لبنان عن سورية فتدمع عينانا معاً .. إلى روح جميع من يحملون حلماً إلى جميع البشر ..

ليست هناك تعليقات: