٢٠٠٧/٠٦/٠٢

المدارس العامة


لأول وهلة عندما دخلت تلك القاعة المتوسطة كحجم صفوفنا في المدارس العامة . كانت الطاولات قد وضعت في أشكال تحوي على أربع كراسي , كنا في بداية الدراسة لا نتعدى العشر أشخاص أكثرهم من السريان العراقيين , كانوا ثلاث فتيات و أربع شباب أكبرهم في الواحدة والثلاثون وما تبقى من الطلاب كانت الفتيات الباقيات واحدة من الجبل الأسود ميلينا و أخرى سريانية جميلة أتت من بلجيكا لم أعد أذكر اسمها وأخرى سريانية أيضاً أتت من ألمانية ربما اسمها مانويلا وأخرى نمساوية أصيلة ربما هي من اسمها مانويلا وليست الأخرى !

كان جو القاعة في البداية أشبه بقاعة سجن جمع أشخاص لا يعرفون بعضهم وكل يشك بأن الآخر واشي ولا يمكن أن يأتمن صداقته حتى يعرفه جيداً , كان الجميع ما عداي متفقين على أن الديانة يمكن لها أن تكون مدخل للعلاقة أو للصداقة لذلك كنت السوري الوحيد الذي لا يعرفه أحد وكان الجميع على حذر من التعامل معي ماعدا فيما يتعلق بترجمة المفردات التي كنت أعرفها لمعرفتي المحدودة باللغة الإنكليزية التي تتقنها المعلمة كجميع السويديين مما جعلني مترجم الصف للعرب الشتات في القاعة .. إلا أن العلاقة لا زالت باردة إلى أن جاء عراقي مجاهراً بديانته المختلفة عنهم عندما قال اسمي نور الدين محمد مع ذلك كان ما يجمعه معهم أكثر مني لأنه عراقي على الأقل .. مرت الأشهر نور صديقي الوحيد حتى عندما أتى إلى الصف آخرون سواء من العراق أم من أوروبة وآسيا وأصبح عددنا أكثر من عشرين طالباً وطالبة كما كانت بينهم سيدة سريانية من حلب وكان من شاركنا طاولتنا و الاستراحة الوحيدة ذات العشرين دقيقة سرياني آخر اسمه هيثم .. هيثم فبالثلاثين من العمر متزوج لديه طفل واحد . زوجته شاركتنا الصف متأخرةً عندما بدأ طفلهما يذهب إلى الحضانة وكانت لطيفة كهيثم .

بدأت الحرب على العراق , كنا جميعاً , العرب قد نال منا الخوف على الأهل والأخوة العراقيين والبشر الذين سيتألمون ويموتون كبيراً , كان نور أكثر المتأزمين حتى أنه لم يأت للدراسة أكثر من أسبوع أما هيثم وزوجته فكانا متوازنين حتى ضربت قريتهم وماتت عائلة كاملة كانت تسكن خلف بيت أحد أقربائهم وهذا مما شاهدوه في قناة الجزيرة التي تتواجد هنا عن طريق الكيبل , زاد خوفهم وأصبحوا تواقين لسماع أخبار الأهل .. عندما قطعت الاتصالات عن العراق كلها .. وما جرى لهم حتى البارحة,, عندما دخلت جيوش أجنبية على الموصل مما أتاح لوالدها أن يخابرهم وهم في المدرسة مما أراحهم وأراحنا نحن أيضاً ..

هذا الجو العام للصف الدراسي .. تلك الخلفية لأحداث تتفاعل داخل أقبية الجهل و تفاعلات الأديان بين العرب أو الشرقيين عموماً و كأن كل ما جرى لنا نحن الذين قد تركنا الوطن قد حفر بداخلنا خندقاً عميقاً من التفرقة ..!

البارحة كنا نضحك خلف ذلك الحزن على سقوط عاصمة عربية وليس على سقوط نظام غاشم كغيره من الأنظمة التي لا أحتاج لتعدادها بانتهاء حصة الدرس عن عادات الشعوب في عيد الفصح , عندما فجأة سألتني زوجة هيثم هل أنت أرثوذكسي أم كاثوليكي !!!!! كنت أشك بأن هيثم يعرفني , ثلاث شهور كافية ليعرف ما إذا كنت غير مسيحي .. كنت غير مستعداً لسؤال بمثل هذه النوعية فقد اعتدت على علاقات لا أهتم ما إذا الطرف الثاني قد يكون أو لا يكون من ملتي أو من ديانتي أم حتى أوسع من هذا بكثير .. كان يهمني من يكون وليس ما يكون.......أي لا شيء يقف عند الدين أم ما يحمله من عقيدة لطالما يعاملني بالمثل والاحترام المتبادل ... فماذا لو اكتشفت بأنه ليس مثلي أي أنه لا يحمل معتقداتي ! ماذا سيحصل !! لا شيء ولم أكن في حياتي طائفياً .. فصديق طفولتي وحياتي ليس من ملتي و أختي متزوجة من أجنبي و زوجة أخي من ديانة أخرى و جدتي من ديانة أخرى و حتى زوجتي ليست من ديني ... ما المشكلة في ذلك ,, فأنا ولدت مع ديانتي حسب الأعراف والتقاليد , ثم في طفولتي فُصِلنا كتلاميذ في المدرسة و لم أعرف السبب حتى كبرت , كنت أعتقد بأنهم يذهبون إلى البيت وكنت أحسدهم علماً بأني كنت أدرس في المدرسة الأرثوذكسية حيث أن جدتي أم والدي لبنانية أرثوذكسية .. لا أعرف لماذا بدأت هذه الكتابة فمنذ نطقي بالجواب بأنني أرثوذكسي وأنا متوتراَ بأني أخطأت القول, موافقاً لعدم الإحراج !! رجعت البيت وقد أحبطت بأني كنت أخاف من أن أكون بشكلٍ ما ليس فرداً من الجماعة أو باني سأكون محروماً من دفء العلاقات التي اشتقت عليها وقد اعتد عليها لأربعين سنة قضيتها في مدينتي بين شتى الملل و الديانات , كان يهمنا أن نكون أصدقاء نتكلم عن الموسيقى أحلام السفر والأفلام الجديدة الكتب الشعر الرسم , ماهية الصداقة ماهية العلاقات ما تحتويه تلك الدوائر من المشاعر لطيفة وأحاسيس تطفوا مع اللقاءات والدعم المباشر عند الحاجة مشاعر الانتماء وتمني الخير للآخر حب الآخر دون أي مصالح سوى الحفاظ على تلك العلاقة ...أطلت وأعرف بأني فتحت طرقاً فرعية ليست في خارطة الكلام عن الصداقة التي كنت ولازلت أحد أكثر الراديكاليين بالإيمان بها ..

رجعت البيت وكلي أمل بأن أجلي هذا التوتر الذي أصابني .... لماذا يجب أن نكون متشابهين لنرضى عن الآخرين !! لماذا يجب على أصدقائنا أن يماثلونا بكل شيء حتى بالإيمان بالدين وبالسياسة ..لا أعرف !!

بدأت... بأن تكلمت مع زوجتي, التي قالت بأنني أخطأت إذ أجبت بأني شخصاً آخر وكأني أخفيت هويتي الحقيقية من أجل أن أكون لطيفاً وهذا ليس سبب عند الغربيين لتقول ما ليس أنت عليه !! مسكت سماعة الهاتف وبدأت بضغط أرقام منزل هيثم وانتظرت الرنة الأولى ثم الثانية ..زادت سرعة ضربات قلبي فالأدرينالين قد زاد في دمي مما جعلني أكثر تردداً بأن أجد مبرراً لما قلته لهما ...فأقفلت الخط دون أن أتأكد من أنهم سيجاوبن بعد عدد آخر من الرنات.. ثم كررت المحاولة للمرة الثانية وأنا مصراً على أن يزول اضطرابي عندما أتكلم مع هيثم , لكن دون أن أجد أحداً في البيت حتى للمرة الثالثة .

في اليوم التالي أبكرت , لعلي أصدفه آتياً فأتكلم معه ,لكنه في هذا اليوم جاء متأخراً كغير عادته . كنت متوتراً طوال الحصة الأولى من المدرسة ثم جاء وقت الاستراحة فاستجمعت قوتي ونزلت مع مجموعة من الأصدقاء داعياً له بأن ينزل معنا كالعادة , تكلمنا عن الحرب , صدام , الأعلام , القمع , الشعوب ومواقف أوروبة ثم انتهت الاستراحة وصعدنا إلى القاعة التي تقع في الطابق الثاني , في الممر المؤدي إلى القاعات كنا نمشي بمفردنا عندما قلت له فجأة .. هيثم البارحة سألتني عن ما هي طائفتي المسيحية وأنت لا تعلم .... ! بأني مسلم

لم تكن دهشته كبيرة فقال لابأس !! فأنا لا توجد لدي أي تفرقة .. !! استراح قلبي وأعصابي من أنني أخطأت ولم أنتظر طويلاً لأرجع ثياب الحقيقة وألبسها .. وهذا شيء شخصي جداً , بأن نكون نحن ما نحن ومن ثم العلاقات تخرج عن ما هو ضمن أكثر الأمور شخصية , كأن نكون صفحة مفتوحة كحقيقة كاملة لا يتنافى مع كوننا نختلف وإلا لما كنا بشر مختلفين اللون والشكل والجنس .. نحن أخيراً بشر وهذا ما يهمني .. أما ما هو معتقدي فهو علاقتي الشخصية جداً مع الخالق وانعكاسها الإيجابي مع علاقاتي بالآخرين ... أليس هذا ما تدعوا إليه الأديان ..أن يكون الخير المقصد الأخير بين البشر .. هذا ما يجعلني من قلبي أحب جميع البشر .. مهما كانت أديانهم ومعتقداتهم ..هم أخيراً أخوتي بالإنسانية

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

this is very nice refat