٢٠٠٧/٠٦/٠٣

عندما اضعت محفظتي


ربما صار لي من الزمن الكثير لم أكتب شيئاً !! و ربما كانت لي أسبابي التي طافت على صفحات أيامي الأخيرة !! ..

الأكتئاب الذي هيمن على الزمن الأخير من هذه الأيام , توج البارحة بفقدان محفظتي التي بها أوراقي المهمة هنا !! علماً و أنا الحريص على تفقدها يومياً لكن يشاء القدر أن يرتب تلك الأحجية على مزاجه الخاص و يكمل الحدث بالشكل الذي يرضيه ( القدر ) ..

من لا يؤمن بالقدر هو أحد إثنين إما محظوظ دائم أو مجنون و من يسيطر علية فكرة القدرية فهو حتماً مخبول مثلي !!

اكتشقت فقدان محفظتي اليوم صباحاً .. في الساعة السابعة و الربع و أنا ألملم حاجاتي للذهاب إلى المدرسة في العادة تضيع النظارات أو المفاتيح أو مفتاح الدراجة تحديداً !! لكن المحفظة فهي أول مرة تحدث معي هنا .. مع ذلك ذهبت المدرسة لأني وعدت أحد الذين تعرفت إليهم في المدرسة و هو شاب من طرطوس أن آت باكراً و ندردش !! وصلت المدرسة باكراً و انتظرت و أنا قلق على المحفظة !! لكنه ( الطرطوسي ) لم يأت اليوم نهائياً .. ربما أضاع محفظته أيضاً !!

سألت حراس المدرسة و عاملات التنظيف و الخ .... عن المحفظة , لكن لا شيء !! ثم رجعت البيت داعياً الله أن آت و أجدها بين يدي زوجتي ....!! أيضاً لا شيء سألت المحلات التي مررت إليها البارحة .. لا شيء ... يا الله ..... كم مرة علي أن أتمنى الموت في حياتي .. تلك الحوادث التي تأتي فجأةً و تدهسك .. تسحقك .. كدودة أرض عمياء .. فجأة تموت !! و لا تعرف من أين أتاك الموت .. تلك الحوادث كالموت تماما , تأت في غير أوقاتها أو تتراكم أو ما إلى هنالك من أمور التي تثير قرفي من هذه الحياة !!نزلت المدينة إلى مركز الشرطة و انتظرت مخرج مسرحي سوري يبلغ عن احتيال ما جرى له في السويد و ليس لديه أي مال أو أي مكان ينام به .. فكرت جدياً باستضافته , لكني فكرت اين سينام .. ليس لدي أي مكان سوى المطبخ فخجلت من نفسي .. حقاً !! ثم نزعت الفكرة من فكري ..!! لعدم جدواها .. انتهى من روايته إلى الشرطية الحسناء التي تجيد الأنكليزية أكثر منه بألف مرة ( معه جوازسفر استرالي ) و جاء دوري لأبلغ عن ضياعي المحفظة .. سألتني عن كل شيء و في كل لحظة كنت أقارن مراكز الشرطة في بلدنا و شرطياتنا البواسل و هؤلاء الحسناوات و لطافتهن .. كدت أنسى مشكلتي كلما تدير ( قدها المياس ) لتأتي بورقة أو شيئاً ما !! و بلغتي الركيكة استطعت أن اشرح لها كل شيء و هي تطبع بسرعة الصوت كل ما أقوله بلغتهم الصحيحة ... على الكومبيوتر .. في النهاية سلمتني ملف أنيق مع ظرف كتب عليه اسمي و رقم الملف الذي سأسأل عنه لاحقاً مع ابتسامة جذابة تمنت لي يوماً جميلاً ... خرجت من مركز الشرطة الأنيق و أنا متفائل بأن شخصاً ما سيأتي بها أو أن أجدها أو أي شيء مفرح و ايجابي آخر !

صعدت دراجة زوجتي و بدا التفائل بالتناقص و تزايد التشائم كلما قدت مسافة .. حتى وصلت البيت منهك و جاهز للإنفجار , ( كما حصل لي مرة عندما أضعت محفظتي في اللاذقية ) صعدت البيت و دخلت عابساً و كأنني على و شك الموت رمياً بالرصاص , لم أتكلم مع زوجتي التي راحت هي الأخرى تتفادى نظراتي أو أن تنبس بأي شيء !! ثم لبست و نزلت , هاربة من جحيم وجهي الذي لا يطاق حتى بالنسبة لي !!

شاهدت التلفزيون قليلاً و من ثم جلست المطبخ و فتحت الكومبيوتر و قرأت رسائل الأصدقاء و استرجعت في لحظات كل ما بإمكانه قهري و زجي في دوامة الكآبة القاتلة .. تذكرت كل الأيام التي سجنت بها , ما ضاع مني حتى سيارات الماتش بوكس , وفاة جدتي و أمي مرض أبي و اشتياقي لأختي و أهلي و أصدقائي .. و سقوط شعري و سنيني من حياتي , الانهزامية و الفشل و الاحباطات المتتالية , كل شيء كان أسوداً , لم يأت أي ضوء لم يأت أي حب وكأنني مدفون عميقاً في باطن شيئاً ما , ربما الكآبة و التشائمية لا تتيح للضوء أن يدخل و ينير لا تتيح لعدسة عيني أن تتقلص بل تتسع لكل المنغصات دون أن تراها.... هكا هو اليوم .. أحببت أن أشرككم به فلربما اجد بكم من يبعث لي بكلام جميل و أنيق يخرق تلك العتمة التي أعيشها .. آملاً بأنني سأحيا لأقرأ كم تهتمون بي ..

نمت الساعة السادسة وربما السابعة بعدما أنهكني تفكيري بالمحفظة , واستطعت النوم حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل , نهضت و حضرت كاسة شاي مع حليب و بعض اللبن و المربى و موزة جعلت معدتي تؤلمني ربما الحليب فاسد , الآن بدأت الكتابة و الساعة الآن الخامسة تقريباً .

أرى من خلال نافذة المطبخ التي أجلس بجانبها المقبرة المنارة بآلاف الشموع الجميلة , فعيد هالوين مناسبة لأشعال الشموع على القبور و هنا يشترون الشموع لمناسبات عديدة و لغير المناسبات العديدة أيضاً, عند الطعام و عند الجلوس في العيادة ترى طاولة الطبيب منارة بشموع, في الوظائف و في منتصف النهار يشعلون الشموع و ربما في هذه العادة ما يجعلك مستغرباً بعض الشيء و أنت قادم من بلاد تستعمل الشموع بحذر و بتقنين مع أننا لا نستعمله بشكل فانتازيا و رومانسي بل لأن الكهرباء هي المشكلة !! لا علينا.... كنت في صدد شرح المنظر الممتد أمامي الآن , و أرى أن جمالية تلك اللوحة المخضبة بتلك الأضواء الصفراء و الشموع و الضباب تذكرني بأفلام ألفرد هيتشكوك المرعبة و التي تقلب معنى الجمالية بالجمالية السوداء أو سوداوية الجمال بالأصح .. المقبرة و الشموع . . . . الأموات ( أغلبيتهم رماد بعد حرقهم ) الضباب , تلك الهالات التي تحيط بكل ضوء , ذلك السكون الذي يقطعة بين الآن و اللآخر مرور سيارة على الطريق العريض الذي يفصل منطقتنا عن المقبرة ..!!

في هذا الجو والمحيط المظلم من هذا الوقت الباكر , يملؤني إحساس غريب بقرب الموت و ذلك لا يزعجني مطلقاً.

اليوم سأذهب إلى استوكهولم لزيارة أكبر صرح ثقافي في العاصمة و اسمه بيت الثقافة , به معارض و مكتبة عامة و الآن به سوق عمل و به يجتمع كل سنة أرباب العمل في السويد ليلتقوا بالراغبين في العمل و من يجدونه كفؤاً لذلك , شهاداته و خبراته و امكانياته .. و أصرت المدرسة على أخذنا إلى هناك لأننا نحن المنافقين المهاجرين لا ننفك بالمطالبة بالعدالة الاجتماعية و اعطائنا الفرص الكبيرة والجيدة للعمل في السويد !!

سأذهب دون هوية أو أي شيء يثبت شخصيتي و إن أوقفتني دورية مخابرات ماذا سأقول لهم ( تلك المخاوف لا زالت مهيمنة على حياتي و لم يختلف شيء علي و إن كنت في بلد لا يطلبون هويتك إلا حرصاً على مصالحك ) المهم سأذهب و لأول مرة دون هوية .. !!!

ماذا عن البلد ماذا عن اللاذقية !!! ماذا اختلف فيها !!!هاهي سنة و شهر على بعدي عنها , كيف أصبحت , هل جددوا بها شيء هل انتهى الجسر و النفق كم مطعم جديد فتح و كم مطعم قديم فاشل أغلق , كم بناية هدمت و بدؤا بجديدة عوضاً عنها !! أحياناً أتخيل اللاذقية مختلفة جداً عن ما كانت قبل سنة و مع أنني متأكد لا شيء يمكن فعله بعشر سنين على الأقل لترى فرقاً ملحوظاً إلا أنني أثير في عقلي جدالاً أستسيغه !!

لا أحد اتصل بي البارحة كان يوماً أسوداً رديئاً , وبدا لي أن الأمور أخذت بانحدار الخط البياني لحياتي هنا إلى الأسوء ..

أتابع لاحقاً .

ها أنا في البيت بعد رحلة إلى استوكهولم المدينة الجميلة و التي أشعر بها و كأني في بيروت أو نيويورك , المدن التي أحبها, التقينا المعلمة في المحطة الرئيسية أو المركزية في العاصمة و منها انتقلنا إلى أجمل كنيسة رأيتها في حياتي من الداخل أم من الخارج و اسمها كاترينا وقد بنت سنة 1590 ثم شب بها حريق و أعيد تجديدها سنة 1752 ( التواريخ ليست بالتحديد ) لكنها رائعة و ليس باستطاعة المرء إلا أن يقف باحترام لهذا العمل الرائع و هي على الطراز القوطي الذي انتشر في تلك العهود !!

ثم إلى بيت الثقافة الذي يطل على رمز استوكهولم , تلك الساحة الكبيرة والتي تحاذي ذلك العامود الزجاجي الذي يضيء ليلاً و بتلألأ الأضواء و نوافيرالماء التي تحيطه تجعله حقاً مثيراً للإعجاب ..

المهم استوكهولم مدينة جميلة بكل جوانبها .. دخلنا إلى المكتبة العامة أو بيت الثقافة بالغة السويدية و هو مبنى ذو واجهة زجاجية بني في الخمسينات , به ماهب و ما دب من النشاطات , المسارح , السينيما , الموسيقى , طبعاً إلى جانب الكتب و الاسطوانات التي تستطيع أن تسمعها و أنت تجلس في مواجهة تلك الساحة المسمات ساحة المواطنية حسب فهمي باللغة السويدية و هي ساحة كبيرة ترى بها غالباً مختلف النشاطات السياسية و بيع المخدرات ..!! , الممنوعة منعاً باتاً في السويد و تعتبر مشكلة كبيرة لدرجة هناك كاميرات مراقبة طوال الوقت ركبت مؤخراً لانتشار المخدرات على شكل حبات دواء تسمى روهبنول .

كانت رحلتنا إلى المكتبة من أجل معرض كبير يحصل سنوياً من أجل ايضاحات العمل أو أن تقابل أرباب العمل كما قلت سابقاً لكننا لم نقابل أي شيء و لا الرب بعل القديم الذي لا يستطيع اعطائك وظيفة حارس ميشية !!!!

انتقلنا في طوابقها الخمسة أو الستة لا أعلم بالتحديد .. كان خيالي بعيداً عن حصر ما أراه و عده فقط كانت عيناي تدوران من جمال إلى آخر وربما الفتيات و النساء من أهم ذلك الجمال !!!

قابلنا عدد من الذين يشرحون عن شيء لا نفهمه للعامة .. و خرجت بنتيجة واحدة .. السويد ليست المكان المناسب لي لأبدأ حياة العمل أو الحياة هنا , قطعاً أنا لا أزيدها أو أبهرها كما سيظن الكثير منكم !!

رجعنا في الساعة الثانية و الربع , كانت القاطرة التي أركب بها مليئة بكل أنواع البشر ما عدا السويديين , وعندما يقول السويديون أن 20 % من السويديين هم من أصل غريب أي مهاجر , هنا يلزم التصحيح فالنسبة أكبر بكثير حسب مارأيت البارحة .. و صلت سودرتالية و كان بامكاني استعمال الكرت الذي يغطي كل المواصلات ليوم واحد كركوب الباص إلى البيت , لكني فضلت الذهاب مشياً مروراً بالساحة الرئيسية و سماع موسيقى عازفي الفلوت اللاتينيين و هم يعزفون موسيقى أغاني البيتلز و غيرها مما أرجعني إلى ذكرياتي في الثمانينات عندما بدأ نجم العازف الروماني زامفير بالسطوع في اللاذقية و تحديداً عندما بدأ التلفزيون السوري التعس ببثه كل مساء !!

وصلت البيت جائعاً و كانت زوجتي قد أكلت لأنها ظنت بأني سآكل في استوكهولم مع بقية الطلاب , كان في البراد الكثير مما يؤكل , لكني فضلت أن احضر مفركة بطاطا بالبيض و سلطة( كلثوم ) و الكثير من الخبز الذي خبزته منذ يومان مع كاسة عصير شديد الحلاوة , ثم الأكل بعد كل هذا دون أي متعة !! أحسست بأني أفقد كل المتع في الحياة , حتى تلك المتعة التي كانت أهم متع حياتي أصبحت شيء ثانوي و غريزي فقط !!

زوجتي تستعجلني للذهاب معها و الساعة الآن السادسة و الربع طبعاً الليل بدأ من ساعتان , فالضوء هنا كغيره من الأشياء القليلة في الشتاء ... طبعاً !!

تبضعنا أغراض البيت من السوبر ماركت القريب منا , عصير , لبن , شمندر, بندورة و خيار و بعض الفواكة ورجعنا البيت أكلنا قليلاً و جلست زوجتي تحضر فيلم سويدي لم أقدر أن أتابعه , لبطئه و جمال الممثلة .. جلست في المطبخ بعد أن أكلت قليلاً و فتحت الكومبيوتر و لعبت ورق الشدة , ثم بدأت الكتابة لكم ثانية .. مشتاق يا شباب و اللــــــــــهِ , هـه .

صباحاً و أنا جالس هنا نظرت إلى أشجار المقبرة الباسقة فإذ بها عارية من أوراقها,أحيانا تنتبه لأول مرة على شيء كان أمامك لمدة شهرين , دليل قوي على شدة ملاحظتي ..!! أليس كذلك !! مزيداً من علامات التعجب و النقاط ما يجعل رسالتي تبدو كأحرف بريل التي يستخدمها المكفوفين ...!!

أيها الأصدقاء أخوتي أخواتي .... أبي .. لجميع أحبائي سلاماتي و قبلاتي مع كل قطرة ماء تنهمر في هذا الشتاء ..

رفعت ..

ليست هناك تعليقات: