٢٠٠٧/٠٦/٠٣

اللطف عند السويديين


أيها الأصدقاء ..

ربما كانت السويد , وما أكثر ماتحدثت عنها , من أكثر البلدان التي يتسم شعبها بدماثة و حسن تعاملهم مع إخوتهم البشر و بعرفهم أن الجميع بشر !! لا فرق بين عربي و عجمي حتى بالتقوى .. و الحوادث التي سأسردها ها هنا ما هي إلا مقتطفات صغيرة , عنت على بالي لأكتبها لكم بمناسبة انتهاء الفصل الدراسي و رجوعي من زيارة استطلاعية بدعوة من شركــة السكن و جمعية حماية البيئة .. و القصة بدأت كالتالي ..

منذ شهران و نيف قرأت اعلان صغير في لوحة الاعلانات التي توجد في كل مداخل البنايات في أوروبة بجانب اللوجات الاسمية لساكنيها ... كتب فيها .. في العاشر من آذار سيعقد اجتماع لساكني هذه المنطقة في الموقع المخصص , لمناقشة المخالفات , بشأن النفايات و فرزها و الأماكن المخصصة للمخلفات الصناعية ( المعاد تكريرها كالورق و البلاستيك و الأجهزة الالكترونية و الألبسة و غيرها ) و يقدم في الاجتماع الآيس كريم و الحلوى و الشراب الساخن و البارد . الأمر الذي يهمني هو النفايات و تلك الغرف الكبيرة التي تدهشني بمحتوياتها كلما اضطررت لإفراغ الأكياس التي تمتلئ كل اسبوع بالمجلات المجانية و الدعايات و علب اللبن و الحليب و الخ الخ ... فأقف أمام ذلك التلفزيون الجديد أو ذلك الكومبيوتر أو الستيريو أم تلك الثلاجة التي تبدوا لي و كأنها خرجت حالاً من المعمل دون أي خدش .. ذلك كله أثر بي كثيراً مما اضطر زوجتي لأن تمنعني من النزول لذلك المستودع لكثرة ما أجلب منه من أغراض تضطر زوجتي أن ترميها بعد خروجي من المنزل .. إلا تلك الثلاجة التي تركناها في المنزل الذي انتقلنا منه , و أظن الأمر لعدم تمكنها من حملها لا أكثر .. !!

المهم كان الأمر بالنسبة لي مثيراً لأعلم كيف يفكر المواطن السويدي بشأن تلك المخلفات !!

نزلنا في الموعد المحدد و إلى المكان الذي لا يبعد عن منزلنا سوى دقائق و معنا وليم , دخلنا تلك القاعة الجميلة و كنا أصغر زوجين بين الموجودين ما عدا شاب في الثلاثين جاء مع أمه و ما تبقى فقد جاوز بعضهم السبعين ... و بدأت المناقشة ....بعد تقديم الآيس كريم و القهوة و الحلوى و الخ الخ ..

الموضوع طال أكثر من ساعتين و لن أسرد ما قيل و قال لكن في النهاية عرض على الحاضرين أن يحصلوا على فرصة لزيارة مع مرشد إلى تلك المنشأة التي تزود المدينة بالمياه الساخنة عن طريق الاستفادة من تلك النفايات و كنت قد قرأت عن تلك المنشأة قبل أيام في الجريدة الفصلية التي تصدرها شركة السكن و ما شد من اهتمامي أن هذه المنشأة تزود عدة مدن بالمياه الساخنة عن طريق شبكة تشترك عدة منشآة صغيرة مشابهة لهذه و ذلك عبر أنابيب يصل طولها عشرات الكيلومترات ممدودة عبر أنفاق ضخمة يصل أحياناً العمق الذي تمر بها مئات الأمتار عندما تمر تحت الأنهر أو تلك التي تمر تحت القناة في المدينة التي أسكن بها و هذه الأنفاق واسعة لدرجة أن شاحنة تستطيع المرور بها .... قبلت العرض فوراً .. و ها هو اليوم الذي حددوه لنا عبر جمعية البيئة للزيارة ..

كنا ربما لا أكثر من عشر أشخاص عرفت منهم خمسة من الذين كانوا متواجدين في ذلك الاجتماع .

استقبلنا ثان شخصية في المنشأة و هو المسؤول عن البيئة و مركزه المهني ما يسمى بمسؤول البيئة اسمه جان ايريك هاكلوند رحب بنا عند المدخل حيث بدا لي بأن تلك المنشأة الضخمة التي تتعامل مع النفايات المنزلية عبارة عن حديقة غناء من المنحوتات الجميلة و الأزهار و الروائح العطرة ابتداءً من تلك النباتات الجميلة و الملونة و الأماكن الجلوس الجميلة التي تظللها الأشجار و تلك السجادة الخضراء النظيفة لدرجة تجعلني أنا أن لا أصدق طبيعيتها ثم ذلك التمثال البرونزي لرجل مستلقي على ارجوحة تلك التي تربط بين شجرتين و الركيزة لذلك التمثال هي تلك القدم التي أنزلها لتأرجحه - سأبعث لكم صورة التمثال –إنه رائع حقاً. دخلنا ذلك الباب و إذ به مبنى في منتهى الجمال و الترتيب .. اللوحات في كل مكان و المنحوتات الخشبية و البرونزية , الجدران المليئة بأعمال فنية رائعة و كأنني في معرض فني .. تكلم قليلاً عن سروره البالغ بقدومنا و دعانا إلى الصالة لشرب القهوة والشاي و الحليب والكعك و الكرواسان السويدي و يسمونه بولار بتشديد اللام .. و بدأ بعرض فيلم عن الريسايكل و دور تلك الشركة في خدمة المجتمع و البيئة , ثم شرح مضيفنا بالتفصيل الذي لم أفهم منه سوى الصور البيانية التي تشرح عن التطور الذي حصل منذ بدأ المنشأة بالعمل سنة 1970 و تطورها و العمل على توسيعها لتخديم أكبر مساحة ممكنة و عدد أكبر ..

ثم أعطى لكل منا خوذة للحماية أثناء تجوالنا في أرجاء المنشأة ..

المنشأة المعروفة باسم ( إيغلستا فاركت ) .. أهم ما ركز عليه صديقنا المرشد هو أن العادم الذي يبلغ ارتفاعه أكثر من مئة و خمسين متر لا يخرج منه سوى بخارماء مئة في المئة و ذلك حفاظاً على الهواء الصحي الذي تمتاز به المنطقة هنا .. هذه المنشأة هي عبارة عن معمل متوسط الحجم لتوليد الطاقة و المياه الساخنة و ربما اسمها عندنا محطة حرارية و بأن كل شيء يخضع لرقابة و تحليل ابتداءً من المياه التي تستعمل حتى المواد التي تستخدم في توليد الحرارة التي تستورد منها السويد من مختلف الدول منها هولندا و بلاد أمريكا الجنوبية و هي تلك المخلفات التي فرزت سابقاً كالورق و البلاستيك و المواد الأخرى و تأت بشكل مضغوطات صغيرة لا تتعدى حجم الأصبع ولا تستخدم إلا بعد أت تحلل العينات و يحلل مايتبقى منها بعد الحرق والدخان و ما يحتويه و إن كان بالامكان التخلص من المواد التي تؤثر في البيئة ربما بل أكيد من أنهم يحللونها أكثر من أي تحليل و رقابة المواد الغذائية التي تستوردها حكوماتنا . أخذت المحاضرة و الشرح و الجولة أكثر من ساعتين و نصف انتهت في نفس القاعة التي بدأنا بها حيث وزع علينا البرشورات و الكتيبات وودعنا بنفس ما استقبلنا من حفاوة .... !!

رجعت البيت لأحضر بعض المعجنات بيتزا و مناقيش و أقراص بفليفلة لحفلة الغد عند منزل المعلمة بمناسبة انتهاء كورس اللغة الثاني و العجيب بهذا أننا في آخر يومين في المدرسة قالت لنا المعلمتان بأنهما سيقابلان كل منا على حدا و يسمى هذا بنقاش الشهادة و في هذه المقابلة تتكلم المعلمة عن مستوى الطالب (اوالطالبة ) شخصيا و عن رأي هذا الطالب بالكورس و الطريقة التي سير بها و كيف امكانية التحسين , و الظريف بالموضوع أنني أخذت من الوقت أكثر الجميع فتكلمنا أنا و المعلمة عن التغيرات التي تتطرأ على الانسان حين يخطوا فوق الاربعين , الذاكرة و امكانية الاستيعاب ... الخ .. الخ , أخيراً تكلمت المعلمة عن مستواي و الدرجة التي أخذتها و مشاركتي في النقاشات و انتهت بأن قالت أنها كانت تريد من كل قلبها أن تعطيني الدرجة الجيدة جداً فالفارق بسيط لكن من سوء حظي أن درجاتي بين الجيد و الجيد جدا قليلة و اختتمت المقابلة بضمي و التمني لي بحياة جيدة و أن تراني في الحفلة التي ستقام غداً في بيت المعلمة الثانية .. انتهت المقابلة و أنا أشعر بالرضى ..

الظريف بالموضوع أن كل الذين أخذوا درجة الجيد تمنت لهم نفس الشيء و هذا دليل على أن أياً منا لا يستاهل درجة أعلى لكن من اللطف أن تقول لنا هذا ..

كانت المعلمة الصغرى قد دعتنا لحفلة انتهاء الكورس و ستقدم لنا بعض المأكولات و الحلوى و الشراب في بيتها و من يحب أن يأت بشيء من الطعام التقليدي لا مانع بل مرحب .. كنت قد اخترت أن أجلب معي بعض المناقيش زعتر و فليفلة و بيتزا صغيرة فسهرت حتى الساعة الثانية و أنا أخبز 93 قطعة من البيتزا الصغيرة و يسمونها هنا ميني بيتزا . في اليوم التالي كان أحد الشبان العراقيين الذين يملكون سيارة قد وعدني بالمرور لبيتي و أخذي دون المرور على المدرسة إلى بيت المعلمة الذي يبعد 20 دقيقة عن مدينتنا و تسمى مدينتها مالنبو و هي إحدى المشاريع السكنية التي بدأت في السبعينات حين اكتظت مدينة استوكهولم بالوافدين من خارج السويد فبدؤا بمشروع أسموه المليون و ذلك بانشاء ضواحي سكنية ضخمة حول استوكهولم العاصمة و تلك الضواحي مجتمعة يبلغ عدد شققها مليون .. و طبعاً أسميها أنا مدن , فهي متكاملة ففيها محطة قطار أو محطة قطار أنفاق ثم مراكز تسوق و مراكز عناية صحية و إن كانت ليست مشافي ثم مدارس , و على الأغلب كل ثلاث أو أكثر يحكمها مجلس بلدي مفصول عن ادارة العاصمة فيحق له حتى فرض ضريبة دخل مختلفة عن العاصمة, تزيد أو تنقص حسب حاجة البلدية لتحسين خدمات المنطقة ..

وصلنا مالنبوو كان سهلاً أن نستدل على بيتها فهنا كل شيء بالأرقام .. كانت خارجاً تلبس شورت قصير أبيض و برفقتها ابنتها ذات الثمان سنوات فترحب بنا و تدلنا على مكان لوضع السيارة .. دخلنا الفيلا من حديقة صغيرة جميلة زرع بها ألوان من الزهور ذات الرائحة العطرة ووضعنا الأكياس في المطبخ و ولجنا الحديقة الخلفية الكبيرة حيث وضعت طاولة كبيرة و كراسي تحت مظلة ضخمة حيث اجتمع حولها أكثر من 16 طالب و طالبة من مختلف الجنسيات .. بدأنا بالترتيب .. مائدة بها من كل بلد شيء ما , الصيني و الفرنسي و الأمريكي , و إن كان الانكليزي قد جاء ببيتزا ايطالية فقد أحسن الباقون باختيار مأكولاتهم حسب بلدهم أما المعلمة التي استضافتنا فقد قدمت لنا مأكولات سويدية كلاسيكية من السمك و الخبز القاسي و الجبن و الزبدة و الحليب و العصائر و الحلوى و الفريز و الشراب الساخن من الشاي حتى القهوة و الكاكاو .. أما تلك الفيلا ذات الحديقة الكبيرة المفروشة بالعشب الأخضر و الأزهار فقد كانت جداً رائعة ... بقينا أربع ساعات .. بدأناها بتحضير المائدة و ترتيبها ثم الأكل و الغناء و ألعاب سويدية عن المعلومات التي سبقت و أن أعطتنا إياها المعلمة في كتيب عن الطبيعة السويدية وأسماء الشجر و النباتات و الحشرات و الحيوانات و اختتمناها بتوزيع الهدايا و الورود إلى المعلمتان ( المعلمة الأخرى جاءت بالطبع ) فبدأت أنا بلوحتين زيتيتين و2 سي دي للعازف منير بشير ..

كان الموضوع مخجلاً فلقد حاولتا أكثر من الطبيعي أن يظهرا بأنهما مسرورتين لهذا و أنه لشرف الكبيرأن أهديهما شيء من أعمالي ( و كأني شيء ما! ) ثم رجعت البيت لأتصل بأصدقائي و أهلي بأني قطعت تذكرة العودة إلى لاذقيتي في 17 حزيران إلى حلب في الخطوط الجوية السورية بدأتها في الاتصال بماهر في الكويت لكن لا أحد يجاوب ثم باللاذقية لكنني لم أوفق في الاتصال بأي أحد سوى أسامة الرملي الذي لم يكن في المحل و سهيل الذي ذهب باكراً من المحل و محمد قشقارة و علي الحكيم و أحمد اسفنجة و صلاح سواس و أبو يوسف و خالد بلة و اسبيرو وزهير سعد الدين و كل الاصدقاء الذين يملكون موبيلات لم أنجح في الوصول إليهم لكني دفعت الثمن بأن الكرت الذي اشتريته قد انتهى دون أن أتكلم به سوى ثلاث دقائق و ما تبقى ذهب في لحظات الانتظار ..



سودرتالية في 10 حزيران 2003 والساعة الآن التاسعة مساءً , والنهار لا زال مقيماً خارج غرفتي , ينير بلدة لم أسمع بها في حياتي , و ها أنا مقيماً بها, في بيت لا تتعدى مساحته 46 متر مربع ويحتل السريران في تلك الغرفة أكثر من ثلثها تماماً و الباقي مكتبة ومكان الكومبيوتر وملحقاته وكنبة ثلاثية و طاولة نستعملها كطاولة للتلفزيون ذو 14 بوصة جلبته من غرفة مخلفات البناية وكان لي أن أختار فاخترت ما يمكنني حمله , ومازالت هذه الغرفة تمدني بما يلهمني لأشعر بمدى فوارق مستوى الحياة بين وطني المليء بالثروات و الجمال و الإمكانيات و تلك البلد التي لم تتحضر مدنيا إلا في أواخر الزمن حتى أنهم في القرن الثامن عشر نزحوا إلى أمريكا وبلاد أخرى طلباً للحياة لما كانت أراضي السويد من قحط و حصول المجاعات و الطقس الذي بقي متجمداً عدة سنوات ما جعل الزراعة و تربية الحيوانات شيء من المستحيل .

الســــــــــويد حكمها الدانمركيون النرويجيون ملوك و مجانين كنائس متعددة ثم فجأةً و بزمن أدهشتني لقصره 1953 أقروا حرية الأديان و من بعدها تحديد ساعات العمل .... ممن جعل السويد إحدى أجمل البلاد و أكثرها عدلا و إنسانيةً , و أن تكون سويدياً لا حاجة لك لأن تجمع المال و لا حاجة لك بأن تخاف من عوارض القدر لأن الدولة التي تحمل جنسيتها أعطتك الحق بالحياة الإنسانية و ما أعنيه هو المسكن اللائق و الطعام اللائق أيضاً و الحد الأدنى الذي يتقاضى به المواطن العاطل عن العمل هو 3000 كرون وهو ما يساوي 16000 ليرة سورية طبعاً بعد دفع المسكن ولا فرق بين مختلف المواطنين حتى لو كان هذا الشخص ليس مواطناً سويدياً لكن يحمل الإقامة السويدية ويعتبر تماماً بنفس الحقوق في تلك الأمور فهذه بالنسبة لهم إنسانية وليست سويدية فقط..

نعم ... . . . . --------------------- إنهم يحيون على طريقتهم و هم شعب يتعب و جاد و حريص و صادق .. ماذا عنا نحن الذين عشنا في بلد يملك أكثر طاقة و حياة و طبيعة .. ولدينا مكارم الأخلاق .. وأي أخلاق ..

تركت النص منذ ذلك الحين ورجعت إليه بعد ثلاثة عشر يوماً , البارحة كنت مدعواً عند حماتي التي حضرت لنا عدة أكلات على غير عادة أهل السويد الذين يكتفون بطبق أو اثنين لا أكثر وربما كان لأقوالي عن عاداتنا في كرم الضيف أكبر أثر بها , و كأن هذا صحيحاً !! لا علينا !! المهم أكلنا وبعدها ذهبت إلى الكومبيوتر و بدأت أقرأ ما بعث لي من رسائل و كنت منتظراً شيئاً ما من أبي , لكن لا شيء للآن فبعثت لأختاي ما كتبته و لأصدقائي أيضاً , ورجعنا للبيت .

منتظرين أن يبدأ الطلق أو حتى البوادر الأولى له , و هذا لم يحصل للآن عسى خيراً فأنا في غاية القلق !!

سننزل إلى المدينة وهذا يعني في لغة البلد هنا أي إلى المركز ومعادلةَ لهذا الكلام عندنا في اللاذقية عندما نريد الذهاب إلى السوق نقول نازل على السوق ..


و كأنني كنت سأكتب عن اللطف السويدي في بداية الرسالة فأراني قد تزحلقت في حديث طويل دون طعمة كالعادة كحياتي هنا .. أنا قادم ..اهربوا...............!

ليست هناك تعليقات: